أمام قبة البرلمان، اجتمعت فرق متنوعة الألوان، فرقة ترتدي الأزرق السماوي، وأخرى أصفر يميل إلى بريق خيوط الشمس الذهبية، أما فرقة أخرى فترتدي أخضرا جمع بين خضرة السنابل الربيعية وشجر التيد المنتشر على طول جبال الريف.
صعدت إلى أعلى الشارع أتأمل هذا التلوين الجميل، فِرق جمعتها حاجة في نفس كل يعقوب، توسُّطُ الفرقة الزرقاء الشارع ذكرني بزرقة السماء السالبة للفؤاد في يوم صيفي على شاطئ طنجة الصخري "بوهندية"، حيث التقى البحران وتناثرت الأمواج العظيمة على نتوءات الصخر الحادة، كم تعشق نفسي ذاك الشاطئ، فلولاه لما كانت طنجة. على يمينها تمركزت رفيقتها الصفراء لتسحبني إلى أيام الجامعة، عند انتهاء الموسم الدراسي مستقلا الحافلة ومتجها إلى مدينتي. على طول الطريق، تخلب عقلي تلك الحقول التي تمايلت سنابلها الشديدة الصفرة، والمُغطّاة بخيوط الذهب االممدودة من الشمس مما زاد نظارة صفرتها وأعطى لمَيَلانِها خشوعا وسكينة تجعل الملحد يسبح بخالق قد كفر به. وعلى يسار الفرقة الزرقاء تراصت أقدام الفرقة الخضراء، وتلاصقت أكتافها في تلاحم ذكرني بزيارتي لمسقط رأس أبي في جبال الريف، حيت أقف في أعلى تل شديد الانحدار، متعجبا من منظر شجر التيد الذي لفرط طوله وكثرته أتخيله سحابة خضراء كست الجبال.
تصرخ الفرق الثلاث بهتافات وشعارات اعتدت سماع مثلها أيام الجامعة، لكن لم أمل سماعها أبدا، وكأني أسمعها أول مرة في كل مرة، حتى أحس أني لست سوى شعار من تلك الشعارات، ونظرا لطول مدة وجودهم هناك تحت قبة البرلمان، أصبح الناس لا يلقون لهم بالا، فتراهم يكتظون حول موائد المقاهي يحتسون أنواع المشروبات غير مبالين بتلك الهتافات التي تصدع بين البنيان، لقد أصبحوا واقعا وجزءا من الحياة الطبيعية للعاصمة، إنهم جزء من الهوية الوطنية الآن.
فجأة ودون سابق إنذار، أرى صفوفا ترتدي أخضرا شاحبا كأنها أشواك صحراء غيرت حرارة الشمس ملامحها، تخترق الفرق المتراصة وتعيث فيها فسادا، فترى كل ذات حمل تضع حملها، وكل ذي لحية قد نتفت كرامته، ومرتادو المقهى لا زالو يحتسون أنواع المشروبات، لقد اعتادو أسراب الجراد تجتاح كل ما يأتي في طريقها، فهي كما يقولون تنفذ مشيئة خالقها ولا ذنب عليها.
بعد أن أنهيت أكل علبة السردين، لبست معطفي الأزرق واتجهت مسرعا نحو سرب الجراد الأخضر لعلي أكون محظوظا لتلتقطني آلة تصوير أجنبية وحولي جراد مأمورون ينالون مما تبقى من كرامتي.